تحليل دستور 2011 : هل هو ديمقراطي أم استبدادي ؟
نُحَلّل في ما يلي الدستور الذي منحه ملك المغرب محمد السادس، في 17 يونيو 2011. ونفحص مدى إتيانه بالديمقراطية، أو بالملكية البرلمانية، التي تطالب بها جماهير متزايدة من الشعب، وفي مقدمتها "حركة 20 فبراير". فهل هذا الدستور يؤسس الديمقراطية، أم أنه يحافظ على آليات الاستبداد السياسي ؟
للجواب على هذا السؤال، نقرأ فصول هذا الدستور فقط من الزاوية التالية : هل هذا الدستور يؤسس نظاما سياسيا يسود فيه الملك ولا يحكم، أم أنه يشرع نظاما سياسيا يسود فيه الملك ويحكم ؟ فالمهم في الدستور، هو أنه يحدد من يحق له أن يقرر على مستوى مختلف السلطات الرئيسية (التشريعية والتنفيذية والقضائية). أما الجوانب الأخرى الواردة في هذا الدستور، فتبقى أقل أهمية، ونتفادى تناولها أو التعليق عليها في هذا المقال.
وعلى خلاف الكثير من الأطروحات أو الآراء، بما فيها تصريحات بعض السياسيين، لم يكن المشكل السياسي أو المشكل الدستوري في المغرب، هو الفصل بين السلطات الكلاسيكية الثلاثة (التنفيذية والتشريعية والقضائية)، بل كان ولا زال المشكل هو الفصل بين سلطة الملك والسلطات الثلاثة. فحتى إذا إفترضنا، في نظام ملكي مُعيّن، أن السلطات الثلاثة مستقلة تماما عن بعضها البعض، وأنها خاضعة في نفس الوقت لسلطة الملك، فهذا لا يثبت وجود الديمقراطية في هذا النظام، وإنما هو شكل من أشكال الاستبداد([2]). لأن معيار الاستبداد، هو أن فردا، أو جماعة، أو مؤسسة واحدة، تحتكر سلطتين أو أكثر.
في مجال السلطة التنفيذية
يقول الفصل 1 من الدستور : "يقوم النظام الدستوري للمملكة على أساس فصل السلط". فهل هذا صحيح ؟ لنفحص بعض الفصول المعبرة.
يقول الفصل 47 : "يعين الملك رئيس الحكومة من الحزب السياسي الذي تصدر انتخابات مجلس النواب ... ويعين أعضاء الحكومة باقتراح من رئيسها". لكن هذا الفصل يضيف : "للملك، بمبادرة منه، بعد استشارة رئيس الحكومة، أن يعفي عضوا أو أكثر من أعضاء الحكومة من مهامهم". وحق الإعفاء هذا يعني أن الملك هو الذي يتحكم في أعضاء الحكومة، وليس رئيس الحكومة. فكل وزير لا يرضي الملك، يصبح مهددا بالطرد من طرف الملك.
ويضيف الفصل 47 : "ولرئيس الحكومة أن يطلب من الملك إعفاء عضو أو أكثر، من أعضاء الحكومة". وتؤكد هذه الجملة أيضا على أن الملك، وليس رئيس الحكومة، هو الذي يتحكم في تكوين الحكومة. وبالتالي تصبح الحكومة (أو السلطة التنفيذية) خاضعة للملك، ويصبح مبدأ فصل السلط (وخاصة منه الفصل بين سلطة الملك والمسلطة التنفيذية) غير موجود في الواقع.
زيادة على ما سبق، يقول الفصل 48 : "يرأس الملك المجلس الوزاري". وكلمة "يرأس" تعني هنا أن الملك هو الذي يُسَيّر ويُقَرّر. ورئاسة الملك للمجلس الوزاري تعني أن السلطة التنفيذية هي في خدمة الملك، وخاضعة له.
ويضيف الفصل 49 : "يتداول المجلس الوزاري ... في التوجهات الاستراتيجية لسياسة الدولة". ومعناه أن الملك (باعتباره رئيس المجلس الوزاري) هو الذي يقرر، في آخر المطاف، في تحديد هذه "التوجهات الاستراتيجية". ويضيف الفصل 71 أن "المجلس الوزاري" (تحت رئاسة الملك) هو الذي يحسم في القوانين الصادرة عن البرلمان (السلطة التشريعية). كما يحسم "المجلس الوزاري" في الكثير من القضايا الأخرى التي تنص عليها فصول أخرى. فلا يستطيع "مجلس الحكومة" أن يحسم إلا في قضايا قليلة وثانوية. بل الفصل 92 يحدد بدقة القضايا التي يُسمح "لمجلس الحكومة" أن يتداول فيها دون غيرها. ويَتّضح مما سبق أن الملك هو الذي يحكم في السلطة التنفيذية.
ويلاحظ أن هذا الدستور لم يوضح الطريقة التي يحسم بها "المجلس الوزاري" اتخاذ قراراته. وهذا الغموض مقصود. الشيء الذي يؤول على أن كفة الملك (باعتباره رئيس المجلس الوزاري) تظل هي دائما الغالبة. أي بعبارة أخرى، كأن الملك يتمتع ب "حق فيتو" (Droit de veto) شامل ومكتوم، على مجمل أعمال "مجلس الحكومة"، وكذلك على منتجات مجلس النواب. وهذا يؤكد أن الملك يهيمن على السلطة التنفيذية، وأن الفصل بين سلطة الملك والسلطة التنفيذية غير موجود في هذا الدستور.
ويضيف الفصل 49 : "يتداول المجلس الوزاري في ... التعيين باقتراح من رئيس الحكومة، وبمبادرة من الوزير المعني، في الوظائف المدنية لوالي بنك المغرب، والسفراء والولاة والعمال، والمسئولين عن الإدارات المكلفة بالأمن الداخلي، والمسئولين عن المؤسسات والمقاولات العمومية الاستراتيجية". معناه أن الملك هو الذي يحسم عمليا، من خلال "المجلس الوزاري"، في تعيين المسئولين الكبار في أجهزة الدولة، من عمال، ووُلاّة، ومديري الأمن، وغيرهم. وذلك عبر "حق فيتو" شامل ومُسْتَتِر. وبِالتّالي فإن أجهزة الدولة الأساسية تبقى خاضعة للملك، وليس لرئيس الحكومة. وتظل صلاحيات السلطة التنفيذية خاضعة لسلطة الملك، بسبب تمتّعه ب "حق فيتو" شامل ومكتوم.
وفي مجال مراجعة الدستور، يقول الفصل 172 : "للملك، ولرئيس الحكومة، ولمجلس النواب، ولمجلس المستشارين، حق اتخاذ المبادرة قصد مراجعة الدستور". فتظهر هذه الإمكانية إيجابية. لكن من خلال الإجراءات المدققة في الفصول 172 إلى 175، يَتّضِح أنه لكي تتطور عمليا هذه المبادرات إلى تنظيم استفتاء فعلي، يلزم أن يوافق عليها الملك. فيقول الفصل 173 أن اقتراح مراجعة الدستور من طرف رئيس الحكومة يجب أن يمر بالضرورة عبر المجلس الوزاري (الذي يرأسه الملك). ويضيف الفصل 174 : "تعرض مشاريع ومقترحات مراجعة الدستور، بمقتضى ظهير". والظهير يقرر فيه الملك وحده. وبالتالي، جميع السبل لتعديل الدستور، يتحكم فيها الملك وحده.
ويقول الفصل 53 : "الملك هو القائد الأعلى للقوات المسلحة الملكية. وله حق التعيين في الوظائف العسكرية". الشيء الذي يخرج المؤسسات العسكرية من مجال السلطة التنفيذية.
ويقول الفصل 54 : "يُحْدَث مجلس أعلى للأمن ... يرأس الملك هذا المجلس". ورغم تنوع أعضاء هذا المجلس، فإن الملك يبقى هو الحاسم في قرارات "المجلس الأعلى للأمن". ولا يبقى لممثل السلطة التنفيذية (رئيس الحكومة) سوى مسايرة توجيهات الملك. بينما المفترض في الديمقراطية (كما هي متعارف عليها عالميا) هو أن تكون المؤسسات المكلفة بالأمن من اختصاص السلطة التنفيذية.
ويقول الفصل 59 : أن الملك هو الذي "يعلن حالة الاستثناء بظهير"، وليس رئيس الحكومة. ويضيف الفصل 59 : "يُخَوّل الملك بذلك اتخاذ الإجراءات التي يفرضها الدفاع عن الوحدة الترابية". بينما كان يفترض أن يُخَوّل مبدأ فصل السلط كل تلك المهام المذكورة سالفا إلى السلطة التنفيذية (أي الحكومة).
ويقول الفصل 77 : "يسهر البرلمان والحكومة على الحفاظ على توازن مالية الدولة". لكن، بما أن سلطة الملك موضوعة فوق كل السلط الأخرى، وبما أن الملك يبادر الى تشييد مشاريع اقتصادية هامة خارجة عن تدبير الحكومة، فإن هذا الفصل 77 يبقى مستحيل التطبيق، ولا يصلح سوى لتجميل نص الدستور.
يَتَّضِح إذن مِمّا سبق أن سلطة الملك تُهيمن على السلطة التنفيذية. ويستحيل بلوغ فصل سُلطة الملك عن السُّلط الثلاثة، ما دام "مجلس الوزراء" موجودا. وتحقيق الديمقراطية، يستوجب حذف "مجلس الوزراء".
في مجال السلطة التشريعية
يقول الفصل 51 : "للملك حق حل مجلسي البرلمان، أو أحدهما، بظهير". ولا يشترط الفصل 96 في هذا الحل سوى "إستشارة" أو "إخبار" رئيس المحكمة الدستورية، ورئيس الحكومة، ورئيسي غرفتي البرلمان. بمعنى أنه إذا لم يُرضِي برلمان ما الملك، يصبح من حق الملك أن يحل هذا البرلمان. وذلك رغم أن الفصل 2 يقول : "السيادة للأمة، تمارسها مباشرة بالإستفتاء، وبصفة غير مباشرة بواسطة ممثليها". فرغم أن الشعب يعتبر هو مصدر السلطة، وأن الشعب يمارس سيادته من خلال ممثليه المنتخبين، فإن الفصل 51 يعطي للملك حق حل البرلمان. ومعناه أن السلطة التشريعية تبقى خاضعة للملك. وإذا لم يساير البرلمان رغبات الملك، أقدم الملك على حله. وبالتالي، لا يوجد في هذا الدستور فصل بين سلطة الملك والسُّلط الأخرى (التنفيذية والتشريعية والقضائية). وإنما توجد فيه هيمنة سلطة الملك على كل السلط الأخرى.
ويمكن قول شيء مماثل في علاقة رئيس الحكومة بمجلس النواب. حيث يقول الفصل 104 : "يمكن لرئيس الحكومة حل مجلس النواب". ولا يحتاج في ذلك رئيس الحكومة سوى لإجراءات بسيطة، مثل "استشارة الملك"، أو "تقديم تصريح أمام البرلمان يتضمن دوافع قرار الحل". بينما يحتاج مجلس النواب، لكي يُنْجِح ملتمس الرقابة (المؤدي إلى استقالة الحكومة)، يحتاج إلى "تصويت الأغلبية المطلقة للأعضاء الذين يتألف منهم". النتيجة هي أن مجلس النواب مجبر على مسايرة رغبات الملك، وعلى إرضاء طلبات رئيس الحكومة. وإِلاَّ قُيِّدَت مُبادراته، أو تَمَّ حَلّه. وهذه التدابير تعبر عن استخفاف كبير بممثلي الشعب.
وعدة فصول من الدستور تقلص إمكانات تدخل النواب في البرلمان. مثلا، يقول الفصل 79 : "للحكومة أن تدفع بعدم قبول كل مقترح أو تعديل لا يدخل في مجال القانون". وهذا يعني أن المجالات التي يمكن لأعضاء للبرلمان أن يقترحوا فيها مشاريع قوانين، تبقى محدودة. زد على ذلك أن الفصل 71 يحدد بدقة لائحة المجالات التي يسمح لأعضاء البرلمان أن يتناولوها دون غيرها. كما أن الفصل 83 يعطي الحق للحكومة لكي "تعارض بحث كل تعديل (مشروع قانون) لم يعرض من قبل على اللجنة (البرلمانية) التي يعنيها الأمر". ويضيف هذا الفصل أن بث البرلمان "يقتصر على التعديلات المقترحة أو المقبولة من قبل الحكومة". بمعنى أن رئيس الحكومة (أو السلطة التنفيذية) يتحكم في مبادرات، وفي أعمال البرلمان (السلطة التشريعية).
ويقول الفصل 95 : "للملك أن يطلب من كلا مجلسي البرلمان أن يقرأ قراءة جديدة كل مشروع أو مقترح قانون". بمعنى أنه، إذا اتخذ البرلمان موقفا أو قرارا لا يرضي الملك، يحق لهذا الأخير أن يطلب من البرلمان أن يراجع موقفه.
ويقول الفصل 50 : "يصدر الملك الأمر بتنفيذ القانون خلال الثلاثين يوما التالية لإحالته إلى الحكومة". ويحتمل أن يتحول هذا المرور الضروري للقوانين بين يدي الملك إلى رقابة مستترة، تدعم "حق الفيتو" المكتوم الذي يتمتع به الملك.
ويطرح الفصل 52 : "للملك أن يخاطب الأمة والبرلمان، ... ولا يمكن أن يكون مضمونه موضوع أي نقاش داخلهما". فيطرح التساؤل : ما الفائدة من خطاب لا يجوز نقاشه ؟ هل المقصود هو فرض تطبيق توجيهات هذا خطاب الملك، دون السماح لنواب الأمة بتبادل الآراء حول مدى سداد مضامين هذا الخطاب، أو حول نجاعته أو ملاءمته ؟
يَتّضح مما سبق أن سلطة الملك تهيمن على السُّلطة التشريعية. وأن هذه السلطة التشريعية مجبرة على تلبية رغبات الملك، و مسايرة رغبات السلطة التنفيذية، وإِلاّ تَمّ حلها.
في مجال السلطة القضائية
يقول الفصل 107 : "السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية". فهل هذا صحيح ؟ وعلى الخصوص، هل السلطة القضائية مستقلة عن سلطة الملك ؟
يقول الفصل 113 : "يسهر المجلس الأعلى للسلطة القضائية على ... استقلال (القضاة) وتعيينهم وترقيتهم وتقاعدهم وتأديبهم". ويضيف الفصل 115، وكذلك الفصل 56 : "يرأس الملك المجلس الأعلى للسلطة القضائية". وفي الواقع، فإن رئاسة الملك للسلطة القضائية، تلغي استقلالية هذه السلطة. وكون الملك يرأس هذا المجلس الأعلى للسلطة القضائية، يعني أنه هو الذي يحسم ويقرر داخله. كيف يمكن للمرؤوس أن يكون مستقلا عن رئيسه ؟ فأين هو استقلال القضاء ؟ رئاسة الملك للمجلس الأعلى للقضاء تُؤَوّل في الواقع على أن القضاء هو في خدمة الملك. بينما استقلالية السلطة القضائية كانت تستوجب أن يترأس المجلس الأعلى للسلطة القضائية قاض منتخب من بين القضاة لفترة معينة.
ويضيف الفصل 57 : "يوافق الملك بظهير على تعيين القضاة من قبل المجلس الأعلى للسلطة القضائية". بمعنى أن الملك يتمتع ب "حق فيتو" في مجال تعيين القضاة. فهل يمكن أن يتصرف قضاة معينون من طرف الملك بشكل مستقل عن رغباته أو توجيهاته ؟
وكان من المستحسن أن يكتفي الملك بخمسة أعضاء في هذا المجلس (من مجموع 17 عضوا) الذين يعينهم الملك بموجب الفصل 115، دون الحاجة إلى رئاسة المجلس الأعلى للسلطة القضائية، ودون الحاجة إلى الموافقة على تعيين القضاة.
ويقول الفصل 107 : "الملك هو الضامن لاستقلال السلطة القضائية". لكن، حسب جل المراقبين، ومنذ استقلال المغرب في سنة 1956 إلى اليوم، أي على امتداد 54 سنة، لم يستطع الملك أن يضمن استقلال القضاء، بل كان يُعتبر هو سبب غياب استقلال السلطة القضائية، خاصة في القضايا التي لها بعد السياسي، فكيف يعقل أن يتحول الملك في المستقبل إلى ضامن استقلال القضاء ؟ وعبر أية آلية ؟ الدستور لا يجيب.
وحتى عبارة مثل "الوكيل العام للملك"، كان يستحسن أن تعوض بعبارة "الوكيل العام للمملكة"، أو "الوكيل العام للدولة"، أو "الوكيل العام للقضاء"، لتبيان إرادة تعزيز استقلال القضاء عن الملك.
ويقول الفصل 124 : "تصدر الأحكام وتنفذ باسم الملك". وكان يستحسن أن تصدر الأحكام باسم "القضاء المغربي"، لتعزيز استقلال القضاء عن سلطة الملك.
ويقول الفصل 109 : "يعاقب القانون كل من حاول التأثير على القاضي بكيفية غير مشروعة". لكن هذا الدستور لا يحدد معنى "التأثير"، ولا يوضح كيف تتم معاقبة هذا التأثير.
ويضيف الفصل 110 : "يتعين على قضاة النيابة العامة الالتزام بالتعليمات الكتابية القانونية الصادرة عن السلطة التي يتبعون لها". وهذه الجملة مُحَيّرة. فلأية سلطة "يتبع" قضاة النيابة العامة ؟ وهل يعمل قضاة النيابة العامة ب "التعليمات" ؟ نفس الملاحظة حول العبارة : "يراعي المجلس الأعلى للسلطة القضائية ... تقارير التقييم المقدمة من قبل السلطة التي يتبعون لها" الواردة في الفصل 116. هل المقصود هو إدانة المتهمين (خاصة في القضايا السياسية) عبر الإكتفاء بتقارير البوليس (أو الشرطة القضائية) كحجج قاطعة ؟
ويقول الفصل 42 : "الملك ... يسهر على احترام الدستور، وحسن سير المؤسسات الدستورية". ويمكن أن يُؤَوَّل هذا الفصل، في ما بعد، على أن سلطة الملك هي فوق كل السلطات والمؤسسات الأخرى ، وأنه يراقبها، ويرجعها إلى الصواب. ويمكن أن يعزز هذا التأويل التصور الذي يعطي للملك حق الهيمنة على مجمل السلط، فيؤدي، في هذه الحالة، إلى إلغاء الفصل بين سلطة الملك والسُّلط الأخرى (التنفيذية والتشريعية والقضائية).
ويقول الفصل 119 : "يعتبر كل مشتبه فيه أو متهم بارتكاب جريمة بريئا، إلى أن تثبت إدانته بمقرر قضائي، مكتسب لقوة الشيء المقضي به". وهذه الجملة لا تستجيب لمطلب الشعب في مجال إدانة المتهم. حيث كان ينبغي الإشارة إلى أنه لا يحق إدانة متهم فقط على أساس تقارير البوليس أو الشرطة القضائية، مثلما تفعل المحاكم، وبشكل آلي، في مجمل القضايا التي لها بعد سياسي. بل كان ينبغي الإشارة إلى أنه لا يحق للقضاة أن يدينوا متهما إلاّ على أساس حجج مادية، يمكن فحصها، ومراقبتها، والتأكد من صحتها. أي أن الحجج المادية هي أساس الإدانة، وليس اتهامات البوليس، أو تخميناته، أو الاعترافات المنتزعة من المتهم بوسيلة التعذيب.
ويقول الفصل 128 : "تعمل الشرطة القضائية تحت سلطة قضاة النيابة العامة وقضاة التحقيق". لكن، منذ استقلال البلاد حتى الآن، تعمل الشرطة القضائية في الواقع تحت إشراف وزارة الداخلية، التي تعتبر "وزارة سيادة"، وتعمل في تَمَاهٍ مع خدام القصر. لذا كان على الدستور، لو كان فعلا حريصا على فصل السلط، أن يكتب صراحة أن الشرطة القضائية تعمل حصرا تحت إشراف المجلس الأعلى للقضاء، وليس تحت إشراف وزارة الداخلية.
ويقول الفصل 130 : "تتألف المحكمة الدستورية من اثني عشر عضوا ... ستة أعضاء يعينهم الملك ...". ولا ندري لماذا يفرض هذا الدستور بأن ينتخب الأعضاء الستة المنبثقين من البرلمان "بأغلبية ثلثي الأعضاء الذين يتألف منهم كل مجلس"، وليس بمجرد أغلبية الأعضاء الحاضرين. حيث من الصعب الحصول على أغلبية الثلثين. ويضيف هذا الفصل 130 : "وإذا تعذر على المجلسين أو على أحدهما انتخاب هؤلاء الأعضاء ... تمارس المحكمة (الدستورية) اختصاصاتها ... وفق نصاب لا يُحتسب فيه الأعضاء الذين لم يقع بعد انتخابهم". وهذا أمر غريب.
ويقول الفصل 130 : "يعين الملك رئيس المحكمة الدستورية من بين الأعضاء الذين تتألف منهم". بينما كان يستحسن أن يكتفي الملك (بدلا من تعيين الرئيس) بالستة أعضاء في المحكمة الدستورية الذين يُعَيّنهم الملك.
ويتضح مما سبق، أن أعضاء السلطة القضائية يعينون من طرف الملك (أو من لدن من هم معينين من طرفه)، ويخضعون لرئاسته، ويطبقون توجيهاته. الشيء الذي يلغي استقلالية السلطة القضائية.
في مجال الانتخابات
يقول الفصل 11 : "الانتخابات الحرة والنزيهة والشفافة هي أساس مشروعية التمثيل الديمقراطي. السلطات العمومية ملزمة بالحياد إزاء المترشحين ... وتسهر السلطات المختصة بتنظيم الانتخابات على تطبيقها". بمعنى أن وزارة الداخلية تستمر في احتكار الإشراف على الانتخابات وعلى الاستفتاءات، رغم أن قوى المعارضة ظلت، منذ استقلال المغرب في سنة 1956 إلى اليوم، تتهم وزارة الداخلية بتزوير الانتخابات. من يضمن شفافية وحرية ونزاهة الانتخابات ؟ وكيف تنظم نزاهة الانتخابات ؟ ولماذا لا يشرف قضاء مستقل على تنظيم الانتخابات ؟ دستور 2011 رفض الاستجابة لهذا المطلب.
في مجال الإعلام
يقول الفصل 28، "يحدد القانون قواعد تنظيم وسائل الإعلام العمومية ومراقبتها ... مع احترام التعددية اللغوية والثقافية والسياسية للمجتمع المغربي". وأضاف الفصل 165 : "تتولى الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري السهر على احترام التعبير التعددي لتيارات الرأي والفكر". لكن، هل تبقى وسائل الإعلام العمومية ضمن احتكار الملك، أم أنها تُسَيّر من طرف الحكومة، أم أنها تُسَيّر من طرف هيئة مستقلة ؟ خاصة وأن الشعب هو المصدر الوحيد لتمويل هذه الوسائل الإعلامية. دستور 2011 لم يستجب لهذه المطالب الشعبية القديمة.
في مجال الملك
يقول الفصل 1: "يقوم النظام الدستوري للمملكة على أساس ... ربط المسؤولية بالمحاسبة". لكن في حالة الملك، يحظى بحق التقرير والتوجيه في مجمل القضايا الهامة أو الحاسمة، وفي نفس الوقت، لا يخضع لا للمراقبة ولا للمحاسبة. وهذا تناقض.
في مجال الدين
يقول تصدير الدستور : "المملكة المغربية دولة إسلامية ... والهوية المغربية تتميز بتبوئ الدين الإسلامي مكانة الصدارة فيها". ويقول الفصل 1 : "تستند الأمة في حياتها العامة على ثوابت جامعة، تتمثل في الدين الإسلامي". ويقول الفصل 3 : "الإسلام دين الدولة". لماذا هذا الإصرار على إخضاع الدولة للإسلام ؟ هل الهدف هو تأسيس شرعية الملك على أساس الدين ؟ هل الهدف هو إرضاء تيارات إسلامية أو استقطابها أو توظيفها في خدمة النظام الملكي ؟ هل الهدف الاستراتيجي هو إخضاع إصدار القوانين للشريعة الإسلامية (مثلما تريد بعض "الحركات الإسلامية") ؟ هل معنى هذا أنهم يريدون تحويل المغرب إلى دولة إسلامية مشابهة لدولة "طالبان" أو السعودية ؟ يتضح أن دستور 2011 يرفض مطلب فصل الدين عن الدولة. ويصر على استمرارية إمكانية استغلال الدين في السياسة.ويقول الفصل 41 : "الملك، أمير المؤمنين، وحامي حمى الملة والدين، والضامن لحرية ممارسة الشؤون الدينية". وفي الواقع، الله وحده هو الذي يمكن أن يحمي الدين، وإذا لم يحم الله دينه، فلا أحد غيره يمكنه أن يحميه. وكان ينبغي أن يقول الدستور أن القانون (وليس الملك) هو "الضامن لحرية ممارسة الشؤون الدينية". والمواطن الذي حرم من حقه في ممارسة شؤونه الدينية، يلزمه أن يشتكي للقضاء، وليس للملك. وتكفي العبارة الواردة في الفصل 3، القائلة : "والدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية".
ويقول الفصل 41 حول الفقهاء في الدين : "يرأس الملك، أمير المؤمنين، المجلس العلمي الأعلى، الذي يتولى دراسة القضايا التي يعرضها عليه. ويعتبر المجلس الجهة الوحيدة المؤهلة لإصدار الفتاوى، بشأن المسائل المحالة عليه". فالملك يتحكم في تكوين هذا المجلس، وهو الذي يحكم فيه، وهو الذي يتحكم في جدول أعماله، وهو الذي يأمر بإنتاج فتاوى، وهو الذي يقبلها أو يرفضها إذا لم ترضيه. بمعنى أنه يحق للملك أن يحتكر تحديد مواقف الإسلام من القضايا الحديثة أو العصرية التي لم يتناولها القرآن بشكل مباشر. وبمعنى أن هذا القانون يُشَرّع التَّحَكُّم التام للملك في الدين. ويضيف الفصل 41 : "يمارس الملك الصلاحيات الدينية المتعلقة بإمارة المؤمنين، والمخولة له حصريا". أي أن الملك، لا يحكم في الدولة فقط، بل يحكم كذلك في الدين. ومن يجمع بين السلطة السياسية والسلطة الدينية، ينساق بسهولة نحو الاستبداد([3]).
وفي مجال الحريات
نلاحظ باستغراب أن الدستور يمنع على أعضاء البرلمان انتقاد النظام الملكي. فيقول الفصل 64 : "لا يمكن متابعة أي عضو من أعضاء البرلمان ... ما عدا إذا كان الرأي المعبر عنه يجادل في النظام الملكي". ويفترض في ما هو ممنوع على البرلماني، أن يكون ممنوعا أكثر على المواطن العادي. وهذا هو الاستبداد بعينه.
فهذا المنع يتناقض مع الفصل 10 الذي يقول : "يضمن الدستور، بصفة خاصة، للمعارضة ... حرية الرأي والتعبير والاجتماع". ويتناقض مع الفصل 19 الذي يقول : "يتمتع الرجل والمرأة، على قدم المساواة، بالحقوق والحريات المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، الواردة في هذا الباب من الدستور، وفي مقتضياته الأخرى، وكذا في الاتفاقات والمواثيق الدولية، كما صادق عليها المغرب". ويتعارض ذلك المنع أيضا مع الفصل 25 الذي يقول : "حرية الفكر و الرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها". ويتناقض مع الفصل 22 الذي يقول : "لا يجوز لأحد أن يعامل الغير، تحت أي ذريعة، معاملة قاسية أو لا إنسانية، أو مهينة، أو حاطة بالكرامة الإنسانية". لأن منع المواطن من نقد النظام السياسي الذي يحكمه، هو ممارسة مهينة، بل حاطة بالكرامة الانسانية.
ومنظومة حقوق الإنسان، كما هي متعارف عليها عالميا، تضمن حرية التعبير في كل القضايا، وعلى الخصوص منها، في موضوع النظام السياسي القائم. وحرية التعبير التي تكون مباحة في التفاهمات، وممنوعة في ما هو أساسي، ليست بحرية تعبير حقيقية. وكل شعب يبقى محروما من حق نقد أو تغيير النظام السياسي الذي يحكمه، هو شعب غير راشد، أو غير حُر، أو غير مستقل.
ومنع نقاش النظام السياسي، يعني أن هذا النظام "مقدس". فإذا كانت "قداسة" الملك قد حذفت من دستور 1996 السابق، فقد انتقلت هذه "القداسة" في الدستور الحالي إلى النظام الملكي. وهذان الشيئان سويان.
وفي الختام
هل جاء هذا الدستور (الممنوح في سنة 2011) بالفصل بين السلط ؟ هل أتى باستقلال القضاء ؟ هل يؤسس لملكية برلمانية ؟ هل يفصل بين سلطة الملك والسلط ألأخرى (التنفيذية والتشريعية والقضائية) ؟ الجواب هو بالتأكيد لا. إن مضامين هذا الدستور تتناقض مع ما يَدّعيه الفصل 1 الذي يقول : "نظام الحكم بالمغرب نظام ملكية دستورية، ديمقراطية برلمانية واجتماعية". فلم نجد فيه لا الديمقراطية، ولا البرلمانية. إن هذا الدستور لا زال يُشَرِّع لنظام سياسي استبدادي، مغلف بمظاهر خداعة، توهم الملاحظ غير المنتبه أن هذا النظام هو ديمقراطي أو مثالي.
----
[1] مهندس، كاتب، معتقل سياسي سابق، محكوم عليه بالسجن المؤبد بتهمة المس بأمن النظام الملكي، سجن خلال 18 سنة إبان حكم الملك الحسن الثاني.
[2] أنظر كتاب ""Le politique"، لعبد الرحمان النوضة، وخاصة الفصل الثاني منه، حول السلطة السياسية، على موقع الأنترنيت : http://livreschauds.wordpress.com
[3] أنظر مقال : "يستحيل تحقيق الديمقراطية بدون الفصل بين الدين والدولة" على موقع الأنترنيت : http://livreschauds.wordpress.com.
المصدر: lakome.com
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire